فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} أي إن لم تنصُروه فسينصُره الله الذي قد نصره في وقت ضرورةٍ أشدَّ من هذه المرة، فحُذف الجزاءُ وأقيم سببُه مُقامَه أو إن لم تنصُروه فقد أوجب له النُصرة حتى نصره في مثل ذلك الوقت فلن يخذُله في غيره {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ} أي تسببوا لخروجه حيث أُذن له عليه الصلاة والسلام في ذلك حين همّوا بإخراجه {ثَانِيَ اثنين} حالٌ من ضميره عليه الصلاة والسلام، وقرئ بسكون الياء على لغة من يُجري الناقصَ مُجرى المقصور في الإعراب، أي أحدَ اثنين من غير اعتبار كونِه عليه الصلاة والسلام ثانيًا فإن معنى قولِهم: ثالثُ ثلاثةٍ ورابعُ أربعةٍ ونحوُ ذلك أحدُ هذه الأعدادِ مطلقًا لا الثالثُ والرابعُ خاصة، ولذلك منع الجمهورُ أن يُنصَبَ ما بعده بأن يقال: ثالثٌ ثلاثةً ورابعٌ أربعةً، وقد مر في قوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله ثالث ثلاثة} من سورة المائدة وجعلُه عليه الصلاة والسلام ثانيَهما لمشي الصديقِ أمامَه ودخولِه في الغار أولًا لكنسه وتسويةِ البِساط له كما ذكر في الأخبار تمحّلٌ مُستغنى عنه {إِذْ هُمَا في الغار} بدلٌ من إذ أخرجه بدلَ البعضِ إذ المرادُ به زمانٌ متسعٌ والغارُ ثقبٌ في أعلى ثوْرٍ وهو جبلٌ في يمنى مكةَ على مسيرة ساعةٍ مكثًا فيه ثلاثًا.
{إِذْ يَقُولُ} بدلٌ ثانٍ أو ظرفٌ لثانيَ {لِصَاحِبِهِ} أي الصدّيق {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} بالعون والعصمةِ والمرادُ بالمعية الولايةُ الدائمةُ التي لا تحوم حول صاحبِها شائبةُ شيءٍ من الحزن، وما هو المشهورُ من اختصاص مَعَ بالمتبوع فالمرادُ بما فيه من المتبوعية في الأمر المباشر، روي أن المشركين لما طلعوا فوق الغار فأشفق أبو بكر رضى الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنْ نُصَبْ اليومَ ذهب دينُ الله فقال عليه الصلاة والسلام: «ما ظنُّك باثنين الله ثالثُهما؟» وقيل: لما دخلا الغارَ بعث الله تعالى حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوتَ فنسَجت عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أعمِ أبصارَهم» فجعلوا يترددون حول الغار ولا يفطَنون قد أخذ الله تعالى أبصارهم عنه، وفيه من الدِلالة على علو طبقةِ الصّدّيق رضي الله عنه وسابقةِ صُحبتِه ما لا يخفى، ولذلك قالوا: من أنكر صُحبةَ أبي بكر رضى الله عنه فقد كفر لإنكاره كلامَ الله سبحانه وتعالى: {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ} أمَنتَه التي تسكُن عندها القلوب {عَلَيْهِ} على النبي صلى الله عليه وسلم فالمرادُ بها ما لا يحوم حوله شائبةُ الخوفِ أصلًا أو على صاحبه إذ هو المنزعِج، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فكان على طُمَأْنينة من أمره {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} عطفٌ على نصره الله والجنودُ هم الملائكةُ النازلون يوم بدرٍ والأحزابِ وحُنينٍ، وقيل: هم الملائكةُ أنزلهم الله ليحرِسوه في الغار ويأباه وصفُهم بعدم رؤيةِ المخاطَبين لهم وقوله عز وعلا: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى} يعني الشركَ أو دعوةَ الكفرِ فإن ذلك الجعلَ لا يتحقق بمجرد الأنجاءِ بالقتل والأسر ونحو ذلك {وَكَلِمَةُ الله} أي التوحيدُ أو دعوةُ الإسلام {هِي العليا} لا يدانيها شيءٌ، وتغييرُ الأسلوب للدِلالة على أنها في نفسها كذلك لا يتبدل شأنُها ولا يتغيرُ حالُها دون غيرِها من الكلم ولذلك وُسِّط ضميرُ الفصلِ، وقرئ بالنصب عطفًا على كلمة الذين {والله عَزِيزٌ} لا يغالب {حَكِيمٌ} في حكمه وتدبيره. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} من مكة، وإسناد الإخراج إليهم إسناد إلى السبب البعيد فإن الله تعالى أذن له عليه الصلاة والسلام بالخروج حين كان منهم ما كان فخرج صلى الله عليه وسلم بنفسه {ثَانِيَ اثنين} حال من ضميره عليه الصلاة والسلام.
أي أحد اثنين من غير اعتبار كونه صلى الله عليه وسلم ثانيًا، فإن معنى قولهم ثالث ثلاثة ورابع أربعة ونحو ذلك أحد هذه الأعداد مطلقًا لا الثالث والرابع خاصة، ولذا منع الجمهور أن ينصب ما بعد بأن يقال ثالث ثلاثة ورابع أربعة، فلا حاجة إلى تكلف توجيه كونه عليه الصلاة والسلام ثانيهما كما فعله بعضهم.
وقرئ {ثَانِيَ} بسكون الياء على لغة من يجري الناقص مجرى المقصور في الإعراب، وليس بضرورة خلافًا لمن زعمه وقال: إنه من أحسن الضرورة في الشعر.
واستشكلت الشرطية بأن الجواب فيها ماض ويتشرط فيه أن يكون مستقبلًا حتى إذا كان ماضيًا قلب مستقبلًا وهنا لم ينقلب، وأجيب بأن الجواب محذوف أقيم سببه مقامه وهو مستقبل أي إن لم تنصروه فسينصره الله تعالى الذي قد نصره في وقت ضرورة أشد من هذه المرة وإلى هذا يشير كلام مجاهد، وجوز أن يكون المراد إن لم تنصروه فقد أوجب له النصرة حين نصره في مثل ذلك الوقت فلن يخذله في غيره، وفرق بين الوجهين بعد اشتراكهما في أن جواب الشرط محذوف بأن الدال عليه على الوجه الأول النصرة المقيدة بزمان الضعف والقلة في السالف وعلى الوجه الثاني معرفتهم بأنه صلى الله عليه وسلم من المنصورين، وقال القطب: الوجهان متقاربان إلا أن الأول مبني على القياس والثاني على الاستصحاب فإن النصرة ثابتة في تلك الحالة فتكون ثابتة في الاستقبال إذ الأصل بقاء ما كان على ما كان، وقيل: إنه على الوجه الأول يقدر الجواب وعلى الثاني هو نصر مستمر فيصح ترتيبه على المستقبل لشموله له {إِذْ هُمَا في الغار} بدل من {إِذْ أَخْرَجَهُ} بدل البعض إذ المراد به زمان متسع فلا يتوهم التغاير المانع من البدلية، وقيل: إنه ظرف {ثَانِيَ اثنين} والمراد بالغار ثقب في أعلى ثور وهو جبل في الجهة اليمنى لمكة على مسير ساعة، مكثا فيه كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ثلاثة أيام يختلف إليهما بالطعام عامر بن فهيرة؛ وعلي كرم الله تعالى وجهه يجهزهما فاشترى ثلاثة أباعر من إبل البحرين واستأجر لهما دليلًا، فلما كانا في بعض الليل من الليلة الثالثة أتاهم علي كرم الله تعالى وجهه بالإبل والدليل فركبوا وتوجهوا نحو المدينة، ولاختفائه عليه الصلاة والسلام في الغار ثلاثة اختفى الإمام أحمد فيما يروى زمن فتنة القرآن كذلك لكن لا في الغار، واختفى هذا العبد الحقير زمن فتح بغداد بعد المحاصرة سنة سبع وأربعين بعد الألف والمائتين خوفًا من العامة وبعض الخاصة لأمور نسبت إليّ وافتراها بعض المنافقين علي في سرداب عند بعض الأحبة ثلاثة أيام أيضًا لذلك ثم أخرجني منه بالعز أمين وأيدني الله تعالى بعد ذلك بالغر الميامين {إِذْ يَقُولُ} بدل ثان، وقيل: أول {لصاحبه} وهو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.
وقد أخرج الدارقطني وابن شاهين وابن مردويه وغيرهم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: «أنت صاحبي في الغار، وأنت معي على الحوض» وأخرج ابن عساكر من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي هريرة مثله، وأخرج هو وابن عدي من طريق الزهري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان: «هل قلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه شيئًا؟» قال: نعم.
قال: قل وأنا أسمع.
فقال حسان رضي الله تعالى عنه:
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد ** طاف العدو به إذ صاعد الجبلا

وكان حب رسول الله قد علموا ** من البرية لم يعدل به رجلا

فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال: «صدقت يا حسان هو كما قلت» ولم يخالف في ذلك أحد حتى الشيعة فيما أعلم لكنهم يقولون ما ستعلمه ورده إن شاء الله تعالى: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} بالعصمة والمعونة فهي معية مخصوصة وإلا فهو تعالى مع كل واحد من خلقه.
روى الشيخان وغيرهما عن أنس قال: حدثني أبو بكر قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرأيت آثار المشركين فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا تحت قدمه.
فقال عليه الصلاة والسلام: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله تعالى ثالثهما».
وروى البيهقي وغيره: أنه لما دخلا الغار أمر الله تعالى العنكبوت فنسجت على فم الغار وبعث حمامتين وحشيتين فباضتا فيه وأقبل فتيان قريش من كل بطن رجلًا بعصيهم وسيوفهم حتى إذا كانوا قدر أربعين ذراعًا تعجل بعضهم فنظر في الغار ليرى أحدًا فرأى حمامتين فرجع إلى أصحابه فقال: ليس في الغار أحد ولو كان قد دخله أحد ما بقيت هاتان الحمامتان.
وجاء في رواية قال بعضهم: إن عليه لعنكبوتًا قبل ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم فانصرفوا، وأول من دخل الغار أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فقد أخرج ابن مردويه عن جندب بن سفيان قال: لما انطلق أبو بكر رضي الله تعالى عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار قال أبو بكر: لا تدخل يا رسول الله حتى استبرئه فدخل الغار فأصاب يده شيء فجعل يمسح الدم عن أصبعه وهو يقول:
ما أنت إلا أصبع دميت ** وفي سبيل الله ما لقيت

روى البيهقي في الدلائل وابن عساكر أنه لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرًا تبعه أبو بكر فجعل يمشي مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن يساره.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا أبا بكر؟ فقال: يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك واذكر الطلب فأكون خلفك ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك لا آمن عليك فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته على أطراف أصابعه حتى حفيت رجلاه فلما رأى ذلك أبو بكر حمله على كاهله وجعل يشتد به حتى أتى فم الغار فأنزله ثم قال: والذي بعثك بالحق لا تدخل حتى أدخله فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك فدخل فلم ير شيئًا فحمله فأدخله وكان في الغار خرق فيه حيات وأفاعي فخشي أبو بكر أن يخرج منهن شيء يؤدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقمه قدمه فجعلن يضربنه ويلسعنه وجعلت دموعه تتحدر وهو لا يرفع قدمه حبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية أنه سد كل خرق في الغار بثوبه قطعه لذلك قطعًا وبقي خرق سده بعقبه رضي الله تعالى عنه {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ} وهي الطمأنينة التي تسكن عندها القلوب {عَلَيْهِ} أي على النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الضمير للصاحب.
وأخرج الخطيب في تاريخه عن حبيب بن أبي ثابت نحوه، وقيل: وهو الأظهر لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم ينزعج حتى يسكن ولا ينافيه تعين ضمير {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} له عليه الصلاة والسلام لعطفه على {نَصَرَهُ الله} لا على {أَنَزلَ} حتى تتفكك الضمائر على أنه إذا كان العطف عليه كما قيل به يجوز أن يكون الضمير للصاحب أيضًا كما يدل عليه ما أخرجه ابن مردويه من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: «يا أبا بكر إن الله تعالى أنزل سكينته عليك وأيدك» إلخ وأن أبيت فأي ضرر في التفكيك إذا كان الأمر ظاهرًا.